حاضرنا
اليوم ليس سوى ثمرة لماضٍ من التراكمات والخبرات والتجارب الناجحة والمتعثرة، هذا
الماضي هو وقود للحاضر كما أن الحاضر هو وقود للمستقبل، وكل أمة هي أسيرة لماضيها
وتاريخها بطريقة أو بأخرى؛ إذ يصعب الفكاك والتحرر الكلي من التاريخ ومن كل تبعاته
وأثقاله.. لكننا كي نصنع حاضرنا فلا بد أن نتخفف من أثقال ماضينا حتى لو كان ذلك
الماضي جميلا! فالماضي إما أن يكون سجلا حافلا بالإنجازات والانتصارات والنجاحات
المتحققة وإما أن يكون ماض من السخط والهزائم والآلام، وفي كلا الحالين يمكن لهذا
الماضي أن يعتقلنا فيه فلا نملك أن نغادر أسواره العالية؛ الماضي الجميل سيعتقل
أرواحنا وذاكرتنا التي لن ترى حاضرنا إلا مشاريعا من التراجع والفشل، والماضي
المؤلم سيظل يمد حاضرنا بالألم والمعاناة التي قد تمتد إلى المستقبل.
فللتاريخ
روح شديدة التأثير على الحاضر، فإما أن تعتقلنا تلك الروح في الماضي بكل تفاصيله
المؤلمة فلا نستطيع الانفكاك والانطلاق نحو المستقبل، وإما أن تكون تلك الروح
دافعة لنا للاسترشاد بالماضي والانتفاع به – أيا كان ذلك الماضي جميلا أم أليما –
والانطلاق منه نحو المستقبل. فبإمكان كل أمة أن تحول تاريخها إلى قاعدة كبيرة من
التجارب والخبرات التي ستضيء لها حاضرها؛ وحينها ستتصالح مع ذلك التاريخ وستنظر
إليه كماض يجب الاحتفاظ به، كما بالإمكان أيضا أن تكون العلاقة بالتاريخ موسومة
بالسخط وعدم التصالح؛ وحينها سيكون همّها الأول هو إنكار الماضي ومحاولة التخلص من
ذلك التاريخ الذي تفوح منه رائحة العار والفضيحة.
*******
فيلسوف
الحضارة الألماني "أوسوالد شبنجلر" عقد في كتابه الضخم "انحلال
الغرب" مقارنة بين الحضارة المصرية الفرعونية التي آمنت بالتاريخ وبين
الحضارة الهندية التي حاولت نسيانه وانتزاعه من ذاكرتها! (فبينما نسي الإنسان الهندي
كل شيء لم ينس الإنسان المصري أي شيء، لذلك كان فن التصوير مجهولا في الهند بينما
كان في مصر الموضوع العملي الرئيسي للفنان، إن مركب الروح المصرية يمتلك حسا
تاريخيا عميقا واضح المعالم، تستفزه عاطفة الحنين إلى المطلق، فالحضارة لدى
المصريين هي تجسيد للاهتمام بالمستقبل وقد عبر المصريون عن ذلك الاهتمام باختيارهم
المواد التي يصنعون منها تماثيلهم كصخور الجرانيت والصوان، وبحفظ أنظمتهم الإدارية
منقوشة على الجدران، وبإنشائهم شبكات الري الواسعة، أما الحضارة الهندية فهي حضارة
فاقدة لأبسط مظاهر الروح التاريخية مع أن التاريخ الهندي لابد وأنه كان خصبا
وغنيا، فبينما كانت المومياء المصرية محاولة لتخليد جسد الميت.. إيمانا بمبدأ
الخلود ومحاولة لإبقاء التاريخ؛ تطل علينا عادة إحراق الميت في الهند إيمانا بمبدأ
الفناء. فتطور النهج الجنائزي من الدفن لدى الأمم إلى الإحراق لدى الهنود تجعلنا
نردّ بالضرورة أسباب هذا التطور إلى أصول سيكولوجية، حيث إن الإحراق كان المشهد
الختامي لطقوس الجنازة والتي هي محاولة لنسيان الذات وإنكار لكل ديمومة تاريخية).
فالعلاقة النفسية بالتاريخ هي التي جعلت المصري يحاول تحنيط تاريخه والاحتفاظ به
للمستقبل وهي ذات العلاقة التي حدت بالهندي إلى إنكار ماضيه وإحراقه وذر رماده
للريح!
التاريخ
معبر مهم نحو الحاضر ومنه إلى المستقبل، وكي نقف على أرض صلبة في حاضرنا اليوم فمن
الضروري أن تكون علاقتنا بالتاريخ على قدر من التصالح والفهم؛ ومن الضروري أيضا –
كما يذكر "شبنجلر" – أن نجعل بيننا وبين التاريخ مسافة كافية تتيح لنا
أن ننظر إلى التاريخ باعتباره مدة من الزمان ليس لها وزن أكبر مما لغيرها من مدد
الزمان، وأن يكون بيننا والتاريخ مسافة تسمح لنا بالتعامل مع الطبيعة الحالية
المتغيرة بعيدا عن أي سطوة أو أي تأثير سلبي.
هذه
العلاقة بالتاريخ بإمكانها أن تنسحب على تاريخ الفرد كما على تاريخ الأمة؛ فالتاريخ
الشخصي للفرد يمكن أن يكون حلما جميلا يحاول تخليده وإما أن يكون كابوسا مخيفا
وحينها لا يفكر سوى بنسيانه وإحراقه. خطورة هذه العلاقة بالتاريخ تكمن في روحها القادرة
على أن تعتقلنا في التاريخ مثقلين بأعبائه التي من المفترض أن نكون قد تخففنا منها
من أجل أثقال الحاضر.. واستعدادا لحمل أعباء أخرى قد يفاجئنا بها المستقبل.
* * *






