الجمعة، مارس 27، 2015

روح التاريخ



حاضرنا اليوم ليس سوى ثمرة لماضٍ من التراكمات والخبرات والتجارب الناجحة والمتعثرة، هذا الماضي هو وقود للحاضر كما أن الحاضر هو وقود للمستقبل، وكل أمة هي أسيرة لماضيها وتاريخها بطريقة أو بأخرى؛ إذ يصعب الفكاك والتحرر الكلي من التاريخ ومن كل تبعاته وأثقاله.. لكننا كي نصنع حاضرنا فلا بد أن نتخفف من أثقال ماضينا حتى لو كان ذلك الماضي جميلا! فالماضي إما أن يكون سجلا حافلا بالإنجازات والانتصارات والنجاحات المتحققة وإما أن يكون ماض من السخط والهزائم والآلام، وفي كلا الحالين يمكن لهذا الماضي أن يعتقلنا فيه فلا نملك أن نغادر أسواره العالية؛ الماضي الجميل سيعتقل أرواحنا وذاكرتنا التي لن ترى حاضرنا إلا مشاريعا من التراجع والفشل، والماضي المؤلم سيظل يمد حاضرنا بالألم والمعاناة التي قد تمتد إلى المستقبل.


فللتاريخ روح شديدة التأثير على الحاضر، فإما أن تعتقلنا تلك الروح في الماضي بكل تفاصيله المؤلمة فلا نستطيع الانفكاك والانطلاق نحو المستقبل، وإما أن تكون تلك الروح دافعة لنا للاسترشاد بالماضي والانتفاع به – أيا كان ذلك الماضي جميلا أم أليما – والانطلاق منه نحو المستقبل. فبإمكان كل أمة أن تحول تاريخها إلى قاعدة كبيرة من التجارب والخبرات التي ستضيء لها حاضرها؛ وحينها ستتصالح مع ذلك التاريخ وستنظر إليه كماض يجب الاحتفاظ به، كما بالإمكان أيضا أن تكون العلاقة بالتاريخ موسومة بالسخط وعدم التصالح؛ وحينها سيكون همّها الأول هو إنكار الماضي ومحاولة التخلص من ذلك التاريخ الذي تفوح منه رائحة العار والفضيحة.

                                    *******

فيلسوف الحضارة الألماني "أوسوالد شبنجلر" عقد في كتابه الضخم "انحلال الغرب" مقارنة بين الحضارة المصرية الفرعونية التي آمنت بالتاريخ وبين الحضارة الهندية التي حاولت نسيانه وانتزاعه من ذاكرتها! (فبينما نسي الإنسان الهندي كل شيء لم ينس الإنسان المصري أي شيء، لذلك كان فن التصوير مجهولا في الهند بينما كان في مصر الموضوع العملي الرئيسي للفنان، إن مركب الروح المصرية يمتلك حسا تاريخيا عميقا واضح المعالم، تستفزه عاطفة الحنين إلى المطلق، فالحضارة لدى المصريين هي تجسيد للاهتمام بالمستقبل وقد عبر المصريون عن ذلك الاهتمام باختيارهم المواد التي يصنعون منها تماثيلهم كصخور الجرانيت والصوان، وبحفظ أنظمتهم الإدارية منقوشة على الجدران، وبإنشائهم شبكات الري الواسعة، أما الحضارة الهندية فهي حضارة فاقدة لأبسط مظاهر الروح التاريخية مع أن التاريخ الهندي لابد وأنه كان خصبا وغنيا، فبينما كانت المومياء المصرية محاولة لتخليد جسد الميت.. إيمانا بمبدأ الخلود ومحاولة لإبقاء التاريخ؛ تطل علينا عادة إحراق الميت في الهند إيمانا بمبدأ الفناء. فتطور النهج الجنائزي من الدفن لدى الأمم إلى الإحراق لدى الهنود تجعلنا نردّ بالضرورة أسباب هذا التطور إلى أصول سيكولوجية، حيث إن الإحراق كان المشهد الختامي لطقوس الجنازة والتي هي محاولة لنسيان الذات وإنكار لكل ديمومة تاريخية). فالعلاقة النفسية بالتاريخ هي التي جعلت المصري يحاول تحنيط تاريخه والاحتفاظ به للمستقبل وهي ذات العلاقة التي حدت بالهندي إلى إنكار ماضيه وإحراقه وذر رماده للريح!

التاريخ معبر مهم نحو الحاضر ومنه إلى المستقبل، وكي نقف على أرض صلبة في حاضرنا اليوم فمن الضروري أن تكون علاقتنا بالتاريخ على قدر من التصالح والفهم؛ ومن الضروري أيضا – كما يذكر "شبنجلر" – أن نجعل بيننا وبين التاريخ مسافة كافية تتيح لنا أن ننظر إلى التاريخ باعتباره مدة من الزمان ليس لها وزن أكبر مما لغيرها من مدد الزمان، وأن يكون بيننا والتاريخ مسافة تسمح لنا بالتعامل مع الطبيعة الحالية المتغيرة بعيدا عن أي سطوة أو أي تأثير سلبي.
هذه العلاقة بالتاريخ بإمكانها أن تنسحب على تاريخ الفرد كما على تاريخ الأمة؛ فالتاريخ الشخصي للفرد يمكن أن يكون حلما جميلا يحاول تخليده وإما أن يكون كابوسا مخيفا وحينها لا يفكر سوى بنسيانه وإحراقه. خطورة هذه العلاقة بالتاريخ تكمن في روحها القادرة على أن تعتقلنا في التاريخ مثقلين بأعبائه التي من المفترض أن نكون قد تخففنا منها من أجل أثقال الحاضر.. واستعدادا لحمل أعباء أخرى قد يفاجئنا بها المستقبل.



*   *   *

السبت، ديسمبر 13، 2014

فتنة النوافذ



لا أعترفُ بالأبواب!

           كان أبي نجارا..
لكنه كان يترك لنا فراغات على جدار غرفنا
كي نملأها بما نشاء.. بمن نشاء!

لكنني لا أعترف بالأبواب!
صداقتي الأعمق مع النوافذ!
فهي من تخبرنا بمواعيد المطر
وتسمح لأشعة الصباح بالتسلل إلى فرش نومنا!

الأبواب حرّاس..
وذكرياتي مع الحرّاس سيئة!

بداية بحارس مدرستي الابتدائية..
الذي كان يمنعنا من الانطلاق لمعانقة نسائم الصباح الأولى..
بينما يأذن بأن ننطلق إلى شمس الظهيرة الحارقة!
كم كان قاسيا!!

مرورا بحارس المرمى
الذي كان يسوءه أن نبتهج!
فحين نهمّ بقذف الكرة إلى شِبَاك أحلامنا
كان ينقضّ في شراسة عليها ضاحكا!!
بينما.. كم كان يغضب حين ننجح في هز شِباك بهجتنا
وكثيرا ما كان يمطرنا بالشتائم!

وسخطي بحارس البنك لا يحد..
رغم ابتسامته العرجاء!

***

الأبواب منافقة..
فبينما تبدو في الخارج هادئة وصارمة.. ونظيفة
تظل في الداخل سكرى بالضوضاء.. ومخنوقة بالخجل!
وملطخة بالذكريات!!

*   *   *

النوافذ عرائس نحضنها بشغف..
ولا نمل من احتضانها حتى الفجر!

ذكرياتي مع النوافذ معتقة بتفجّر البدايات..
فكم لمحت من خلالها جارتي الصغيرة وهي ترمي بعلب الشيكولاتة الفارغة..
وتقفز عائدة إلى الداخل كالفراشات!

ولا يزال الباب يمارس تسلطه على جسدها المانح..
وعلى هواي المستجدي!

للنوافذ أصوات النوارس!
فكم كانت تناديني لأكون شاهدا على الكثير من مغامرات الحب..
والكثير من جرائم الصداقة.. وتهاويل الرجال!
وعلى الكثير الكثير من غوايات النساء!

كم روت لي النوافذ الكثير من الحكايات عن جنيات المساء اللاتي يخبئن ذيولهن الطويلة تحت عباءاتهن!
ووعدتني بأن تريني بعضهن.. وهن يتسكّعن في أنصاف الليالي..
لكنها لم تف بوعدها..
وحتى هذه اللحظة لا زلت أرقبهن في أنصاف الليالي.. ربما سألمح ذيولهن المختبئة!

***

النوافذ معابر .. نعبر من خلالها إلى فتنة المساءات
وهي تتلفع بملاءات النجوم!
ونحو المجهول.. وهو يبتلع أحلامنا الصغيرة..
ويعدنا بأن يشبع نزواتنا اللامتناهية.

*   *   *

حين يمارس الباب تسلطه على أجسادنا..
تتحول النوافذ إلى سراديب لأرواحنا.. نحو الفراغ البعيد!

نافذة الغرفة.. نافذة السيارة.. نافذة الدردشة
جميعها تشعرنا بروعة بالانتظار
بتلويحة حبيب..
بنسمات باردة من جنوب الهوى!

فتنة النوافذ.. لا تحجبها صرامة الأبواب
مهما كانت فظة!

*   *   *

السبت، يوليو 04، 2009

في ذكرى (المسيري)




مثل ماردٍ جبارٍ .. قادمٍ من أعماق المجهول

تتقدّم ببطء .. مبتلعاً كلَّ ما أمامَك من أفكار وتجارب
كتقدُّم الشيخوخة على تقاسيمك ببطء .. دون أن تثنيك!



* * *


كانت حلماً يلُوح في سماوات تأمّلاتهم، وتعبق منه أنفاسُهم على وسائدهم المحشوّةِ بالجُبن!
سرعان ما تنامى شاخصا .. كخرافةٍ ترفضُ الرحيل!
لكنك حملتَ إليها كلَّ ما استطعْتَ من معاول .. وكرّست لها أمْسَك ويومَك وغَدَك!
لأن فكرةً كالصهيونية لا تتهاوى إلا كما تنامت .. بعد عمر طويل


* * *


ككل العاملين .. تتلقى الضرباتِ من خلفك! غيرَ وَجِلٍ ولا هَيّاب
مردِّداً الحكمة التي تقول: الضربةُ التي لا تقتلُك تقوّيك!
ولا تفتأ تشعُّ كشمسٍ ملتهبةٍ في كبد السماء
لا يلبث كلُّ من يتجاهلُها أن يشعرَ بعرَقِهِ يتقطّرُ تحت إبطِه!


* * *


لا تزال آثارك تحملُ رايةً مضمخة بعرق راحتيك المكدودتين! وآن لهم أن يتسلّموا الرايةَ بعدك
لتبقى عاليةً .. مصونةً عن السقوط أوالتردي
ها أنتَ .. تتعمْلَقُ أفكارُك يوماً بعد يوم، وتتشعّب كغابةٍ استوائية تكتظُّ بمخلوقاتٍ جميلة ونادرةٍ ..
لكنها إن لم تُسيَّج بمحْمِيّاتٍ آمنةٍ .. فستؤول إلى الانقراض!
***

السبت، يونيو 27، 2009

من هدايا الأصيل


















الرياح..
تهب من أقاصي الذاكرة
محملة بعبق الأشخاص
وعبير الأيام!
حين تتزحلق الشمس..
على سحب الأصيل!
وهي تقذف إلينا بكل ما هو جميل
صوت بائع الحلوى..
بنشيده المضحك
غنة بائع المنفوش الكبير
زمارة بائع الآيسكريم
والصغار يتحلقون حولهم بريالاتهم
وبأذهانهم المحشوة بطلبات العائلة
الزقاق مكتظ بالوجوه
ووراء كل وجه..
قصة مفعمة بالحياة!



***



درج المنزل خال إلا منه
وهو يلعق ورقة الشوكولاته اللذيذة
ويراقب قطة على سطح المنزل المقابل
وهي تحرس ولديها..
وهما يتعاركان حولها في لطف
يا لهذا الأصيل الجميل
كم تتداعى الذكريات أمامه
كلما هبت رياح الأصيل
مؤذنة بتثاؤب النهار!
لملمت الشمس أشعتها في طريق عودتها!
لتعود معها تلك الوجوه إلى ملاذاتها
بائع الحلوى.. عائدا..
وهو يعد ريالاته الكثيرة
بائع الآيسكريم
عامل المنزل المجاور..
يجمع أدواته المبعثرة
ويغسل الإسمنت عن يديه وقدميه
مؤذن المسجد..
ذاهبا إلى المسجد
والأطفال يتراكضون أمامه في لا مبالاة
وهو يتحاشاهم في هدوء
وقرص الشمس ينحدر في جلال ومهابة



***



يرتفع أذان المغرب..
ليطل والده من رأس الزقاق
محملا بمتاعب شمس النهار المحرقة
حاملا كيسا من خبز الشعير المفضل لديه
وقلب أب يضج بالعطاء!




***

الأربعاء، مايو 27، 2009

أن تظل جميلا..




جميل بهذا الوجود الجميل
بأن تستفيق..
جميلا!
وتشرق في كل صقع
كما الشمس
تبسم للبر
للبحر
للكائنات



***



جميل بهذا الوجود الجميل
إذا ما ظللت جميلا
تحط الطيور على شرفتك
وتبكي العشيقات عند المساء..
على كتفيك!



***



جميل..
إذا ما ظللت كبيرا
يضج فؤادك بالذاهبين
وبالآيبين
تنام..
وكل النوايا الحسان
ترفرف حولك
كيما تعود
بإطلالة النور
كل صباح..
وكل مساء



***



جميل..
بأن تتلون مثل الورود
بأن تتفضل بالشهد..
مثل الورود
تزيّن كلَّ طريق
تمر عليه
وتبهج أعين مرضاك..
مثل الورود
تخبأ تحت الوسائد
مثل الورود



***



جميل بأن تلهم الفن..
والشعر..
والأغنيات
تشدو الشفاه بذكرك
تبكي العيون إذا ودعتك
وتبقى..
تراقب حين الوداع مسيرك
حتى تضم الدروب مغيبك



***



جميل..
إذا ما احتفظت بروح الطفولة
بين يديك
إلى آخر العمر
تضحك مستغرقا في حياتك
تبعث روح الجمادات!
تبسم في وجه من أغضبوك..
قبيل ثوان
تعود وتشغب بين يديهم
لكي يمنحوك ابتساماتهم
بعد أن منحوك البكاء!



***



جميل بهذا الوجود الجميل
إذا ما غربت جميلا
تتابع سيرك كل العيون
يلوح كل الصغار إليك..
وكل الكبار
وتلتقط الذكريات الجميلة
حين يمر أمامك سرب حمام
وحين تغيب..
ترش عليهم جميعا
بذور الصفاء!



***

الثلاثاء، مايو 19، 2009

الدورة الداروينية للأفكار (2 - 2)


لعل الكثير من الناس يؤمن جدا بالتفاعلات والتغيرات البيئية التي تحدث أمام عينيه وتبرهن لها الدراسات والنظريات العلمية، ولكن القليل منهم يعتقد أن الأفكار كذلك، فهي أيضا تحدث لها الكثير من التغيرات المعرفية والتفاعلات؛ فتتعايش وتتكاثر وتتقاتل وتكبر وتموت؛ بل وتنقرض أيضا! مثلها مثل الكائنات البشرية في دورتها المادية؛ إلا أن للفلسفات والأفكار والآراء دورة وجودية تختلف عن دورة الحياة المادية لكنها تشبهها إلى حد كبير؛ وهذا ما عرّجت عليه في مقالي السابق.
ولنأخذ مثلا واحدا يدلل لنا أن الأفكار قد تموت بل وتنقرض تماما من خارطة الأفكار البشرية بحيث لا يكاد يصدق عاقل أن هذه الفكرة كانت هناك من قبل؛ مثلما انقرضت بعض الأحياء كالديناصورات من خارطة البيئة اليوم.
ففي موضوع الأمراض وطريقة انتقالها بين البشر؛ كانت بعض الحضارات القديمة تنسبها إلى الآلهة والأرواح الشريرة؛ مثبتة بالبراهين آنذاك صحة ادعائها هذا؛ إلى أن جاءت الحضارة اليونانية وأولت الطب اهتمامها الكبير، وبرز فيهم الطبيب "أبقراط" ليثبت بدراساته وأبحاثه أن عملية انتقال الأمراض بين البشر تجري وفق عملية طبيعية بحتة لا دخل للآلهة ولا للأرواح الشريرة بها مطلقا، ولكم أن تتصوروا مقدار الاعتراضات والردود والمناقشات التي جوبه بها هذا العالم حتى أثبت صحة نظريته للعالم أجمع؛ متحديا سيل الانتقادات والاعتراضات والردود بدراساته وبراهينيه ليس إلا، وتتوالى الدراسات بعد ذلك لتبلغ أوجها وتترسخ في ذاكرة البشرية جمعاء بما لا يدع مجالا للشك في ظل حضارة اليوم، ليصبح الحديث عن أن انتقال الأمراض بين البشر هو بفعل الأرواح الشريرة أو الآلهة ضربا من الخبال والجنون.
[1]

إننا حين نقرر مثل هذا الأمر يجب علينا في غمرة حواراتنا ونقاشاتنا حول الكثير من القضايا والأفكار والنظريات والفلسفات أن لا يحكمنا الانفعال الشديد والاحتقان والتوتر وربما سوء الظن والسباب والشتائم؛ لأن كل فكرة يدور حولها النقاش سوف تأخذ مسارها بتلقائية شديدة ليصل العقل الفردي والجمعي إلى اعتناق أجداها وأكثرها تحقيقا لسعادته وصلاحه واستقراره، وهذا سوف يعطينا ثقة كبيرة حين نناقش أي فكرة مهما كانت خطورتها، وذلك بأن نتناولها بكل رشد وعقلانية وهدوء، ما دمنا نجعل الحقيقة – والحقيقة فقط – هي رائدنا وهدفنا النهائي الذي نصبو إليه جميعا مهما اختلفت رؤانا وخلفياتنا الفكرية والاجتماعية والمعرفية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) في نهايات القرن الخامس قبل الميلاد أسس "أبقراط" مدرسة للطب، وكان هو أول من قال إن الأمراض تنتج عن أسباب طبيعية وليس بسبب الآلهة. (تاريخ الحضارة اليونانية – سيتوارت روس)

الثلاثاء، مايو 12، 2009

الدورة الداروينية للأفكار (1 - 2)



في كتاب علمي خيالي في آن معا؛ صدرا مؤخراً ليثير الكثير من التساؤلات العلمية، عنوان هذا الكتاب: العالم من دوننا (The World Without Us) يعالج فيه الكاتب الصحفي: آلان وايزمان؛ تصوراً عن هذه الأرض وهي تخلو من العنصر البشري، كيف سوف تسير الحياة بعد أيام قليلة ثم بعد شهور ثم بعد سنوات، إلى أن يصل إلى ما بعد قرون من مغادرة كل المخلوقات البشرية لسطح الأرض، ليصل إلى نتيجة مفادها: أن الأرض يمكن لها أن تدير ذاتها من غير أيّ تدخل من العنصر البشري، بل أن تصل إلى ما هو أبعد من ذلك بأن تصلح كل آثار الدمار والخراب الذي قد تركه الإنسان على ظهرها جراء بحثه عن أسباب بقائه وسعيه وراء مصالحه الذاتية دون إدراك بالعواقب، ليصل الكاتب في نهاية المطاف إلى قناعة تقول: إننا كبشر لسنا طرفاً رئيسياً في بقاء هذه الأرض بقدر ما كنا طرفاً رئيسياً في دمارها!

تقول الدراسة: إن الأرض – منذ اللحظات الأولى من مغادرة آخر كائن بشري – سوف تحدث على ظهرها – ابتداءً – الكثير من الكوارث والحرائق التي كان العنصر البشري يحول دون وقوعها، حيث لا تلبث أن تهدأ كل تلك الكوارث بعد مدة تطول أو تقصر؛ لتبدأ الأمطار والسيول في كنس كل تلك المخلّفات البشرية حيث ترمي بها في أعماق البحار والمحيطات، ثم تبدأ الرياح بجرف الكثير من الأتربة والغبار إلى أماكن كانت مأهولة بالسكان لتطمرَها تحت أكوام التراب، وبتعاقب سقوط الأمطار على تلك المساحات الشاسعة فإن الكثير من النباتات والأعشاب سوف تنمو لتغمر تلك المساحات في مدد مختلفة، وتبدأ الكثير من الحيوانات المتنوعة في الانتشار على تلك المساحات التي وجدت فيها ملاذاتها الآمنة بجوار الكثير من النباتات والحشائش! ليحصل التزاوج والتكاثر؛ كما سيحصل الصراع بين تلك الحيوانات لتبقى في المحصّلة شريعة الغاب التي تقول: البقاء للأقوى أو البقاء للأقدر على التكيّف حسب الاختلاف بين (نظرية اسبنسر) ونظرية (دارون).

ولست معنياً هنا بسرد هذه الدراسات والتحليلات البيئية بقدر ما أنا بصدد طرح فكرة تقول: إن الأفكار والآراء والفلسفات والدراسات كلها تسلك ذات المسيرة لتصل إلى نفس النتيجة، فالمجتمعات والأفراد يتبنون الكثير من الأفكار والنظريات والفلسفات التي يكثر النقاش والحوار والجدال حول صدقها أو كذبها؛ وصلاحها أو فسادها، وسرعان ما سوف تسلك هذه الآراء نفس دورة الحياة الطبيعية ليبقى في نهاية المطاف الأقدر على البقاء والتكيف والأصلح والأقوى.
إن الأفكار والآراء تتفاعل مع البشر في كل المجتمعات ويحدث بينها الصدام والتنافر أو التعاون والتلاحم، وسوف تكنس العقول البشرية تلقائيا كل رأي فاسد غير سليم؛ ليستقر في نهاية المطاف ويبقى الصحيح الذي لا يصحّ إلا هو من وجهة النظر البشرية، وليس هذا نهاية المطاف؛ بل قد يأتي زمن آخر أو رأي آخر يخطّئ الرأي السابق أو يصححه بالأدلة والبراهين، لتبدأ من جديد دورة الجدال والنقاش والبحث والسؤال؛ ليصل العقل الفردي والجمعي إلى شبه استقرار حول فكرة ما أو رأي أو نظرية... وهكذا تستمر العقول في تكامل وتطور وبناء كما سوف تستمر الأفكار والفلسفات في تكامل وتطور وبناء.

هذا وللحديث بقية ،،،